كنت حريصًا على متابعة تلك الشهادة التى أدلى بها السلفى محمد حسين يعقوب، فى القضية المعروفة باسم “خلية داعش – إمبابة” حيث أقر بعض المتهمين فيها أن آرائه وفتاويه هى التى دفعتهم لارتكاب العمليات الإرهابية ضد مرافق الدولة، ومن المؤكد أن هناك الآلاف من الشباب قد تأثروا بأفكار هذا الرجل وغيره ممن يدعون أنهم من السلفيين.
والحقيقة أنه سبق لى التعامل مع هذا الرجل وأيضًا مع السلفى محمد حسان، واعترف أنهما كانا يجيدان فن المراوغة بامتياز، ولذلك كنت متشوقًا لسماع شهادته فى تلك القضية أمام القاضى الجليل المستشار محمد السعيد الشربينى، والذى يبدوا أنه كان متأهبًا لهذا الأسلوب فكانت مناقشته تمثل قمة الوعى والإدراك لمبدأ “التقية” الذى يجيده هؤلاء عند مواجهتهم بالفكرة والحجة والبينة والعلم، ومن هنا جاءت إجابات هذا الرجل لتعلن عن سقوط أحد نماذج التسلف السياسى بعد 40 عامًا من الدعوة السلفية.
رأيت الرجل بعد أن حلف يمين الله يتبرأ من الذين اتبعوه بل ويدينهم وينكر وجود فكرًا سلفيًا جهاديًا، وأنه لم يسبق له تأييد جماعة الإخوان الإرهابية، رغم أننا جميعًا قد رأيناه أثناء اعتصام رابعة ومعه السلفى محمد حسان على منصة الإخوان بميدان مصطفى محمود، وهما يطالبان المعتصمين والمتظاهرين بالثبات فى الميادين وعدم مغادرتها، ويعلنان تأييدهما هم وأتبعاهم لجماعة الإخوان الإرهابية قائلين “نحن بين أيديكم ودماؤنا دون دماءكم”.
وأعتقد أن جميعنا يتذكر ما سمى وقتها “غزوة الصناديق” فى انتخابات الإخوانى محمد مرسى، والتى دعا إليها محمد يعقوب، وأيضًا تلك الدعوة التى أطلقها حسان، لجمع التبرعات بالملايين تحت دعوى الاستغناء عن المعونة الأمريكية فى 2013 ولا أحد يعرف مصير تلك الأموال حتى وقتنا هذا.
لقد أنكر المذكور انتمائه لأى جماعة، وأنكر الفكر الجهادى، وأنكر تواصله مع جماعة الإخوان، وكذلك بعدم معرفته لمعنى الفكر السلفى.
كنت سعيدًا وأنا أرى هذا الرجل القدوة لآلاف الشباب المغرر بهم وهو يكذب ويتمادى فى الكذب، كما كنت فخورًا بالقاضى المحترم وهو يكشف للرأى العام مدى جهل هذ الرجل بأصول الدين والعلوم الشرعية، ورأينا من خلال مناقشته تراجعًا كاملاً عن علاقته بالسلفيين وانهيارًا كاملاً للبناء الفكرى الأجوف الذى حاول المذكور على مدى أربعة عقود أن يغذى بها عقول الشباب والمريدين له، ورأينا الكذب فى أعلى مراتبه أمام الآلاف من المستمعين والمشاهدين وهم يرون قدوتهم تكذب ثم تكذب، وجميعنا يعلم بذلك حتى مريديه الذين برروا هذا الكذب بفقه التقية هروبًا من المسؤولية والمساءلة.
لقد كشفت تلك المواجهة هذا المأزق الذى يعانى منه التيار السلفى، الذى طالما استغل عقول الكثيرين من الشباب باسم الدين والدعوة والسلف الصالح، فها هو القاضى الجليل يضع التيار السلفى متمثلاً فى حسين يعقوب، أمام خيارين أحلاهما مر، الأول الاعتراف بصحة فتواهم كمرجعية لخلايا الإرهاب الداعشى، وفى هذه الحالة ستطالهم يد العدالة، والثانى الإقرار بخطأ مريديهم وإدانتهم وهو ما فعله يعقوب، على أمل اعتقاد المريدين أنه قد فعل ذلك تحت الضغط الذى جعله يمارس لعبة “التقية” التى يجيدها تيار الإسلام السياسى ببراعة حتى وإن ظهر متناقضًا أو مرتبكًا، ولكنه من المؤكد أنه من داخله كان متسلطًا ومقتنعًا بذات الفكر، ولذلك فإننى أؤكد أن تبرؤ المذكور من الفتوى أو الفكر التكفيرى والنعرة المتشددة يجب ألا ننظر إليها على أنها تراجع فى معتقداته أو مواقفه أو عودة إلى الحق.
إننى اليوم أناشد الشباب من أبناء الوطن ومن أتباع هذا التيار بعد اكتشاف خديعة مشايخهم والمتاجرة بهم وبالدين بأن تكون شهادة هذا الرجل وغيره من هؤلاء المدعين بداية لإبطال جميع تيارات الإسلام السياسى ومحاكمة تجار الدين، الذين شوهوا قيم الإسلام الحنيف ولوثوا عقول مريديهم من أجيال كاملة أسقطوها فى مستنقع الإرهاب.
لا بد أن نستفيد من هذا المشهد حتى نعيد للشباب توازنهم وتفهمهم لوسطية الدين لنستكمل معهم هدم منظومة الزيف والخداع التى سيطرت على عقولهم لعدة عقود.
كما أدعو الجهات المعنية سواء مؤسسة الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف والإعلام أن تتلقف هدية يعقوب، على خلفية دحض الفكر المتطرف والتيار السلفى المتشدد بعدما شهد شاهد من أهلها، وذلك لكى نحمى شبابنا المغرر بهم الذين ليس لهم تجربة فى الحياة ولا علم لهم بالكتاب والسنة ولا بأهل العلم.